إن المعرفة الحقيقية بالنسبة للمسلم هي التي تبدأ من القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة لذلك بحثت في هذه المسألة فوجدت أن القرآن الكريم قد أولاها عناية خاصة، فقد قسمت سورة البقرة البشر إلى ثلاثة أصناف: المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، وبعد ذلك تحدث القرآن عن نماذج من هذه الأصناف وصفاتهم.
والآخر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا كفار قريش، واليهود، والنصارى، والمنافقون، وقد قدمت الآيات الكريم صوراً واضحة لكل فئة من هؤلاء، وأوضحت كيفية التعامل معهم، فبالإضافة إلى توضيح صورة الآخر عقديا فقد إهتم أيضا بالجوانب الأخرى، فها هي صورة العربي الجاهلي وموقفه من المرأة {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ*يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58-59].
وأوضح القرآن الكريم إنحرافات قوم لوط وإنحرافات قوم شعيب، وقد روى البخاري عن السيدة عائشة رضي الله عنها صور النكاح في الجاهلية مقارنة إياها بالصورة التي إرتضاها الإسلام، وورد في السيرة النبوية الشريفة وصف جعفر بن أبي طالب للإسلام وكان من هذا الوصف بعض الأمور الإجتماعية.
ويسبق معرفة الآخر معرفة الذات أو النفس، ليؤكد أمرين:
= أولهما: تثبيت الهوية الخاصة بالمؤمنين بتوضيح صفاتهم، وأخلاقهم، وعلاقاتهم بالكون والحياة، فقد وردت كلمة الإيمان بمشتقاتها المختلفة، آمن، آمنوا، يؤمنون، مؤمنون، مؤمنين، مؤمنات.. أكثر من سبعمائة مرة، ولو أضفنا الصفات الأخرى المرادفة مثل: الصادقين والقانتين، والمتصدقين، والخاشعين، لكان أكثر من ذلك.
فمن الآيات التي توضح خصائص المؤمنين قول الله تعالى في وصفهم في مقدمة سورة البقرة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ*والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ*أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة:3-5]، ومن ذلك قول الله عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207].
وقد وردت أحاديث كثيرة توضح صورة المسلم ومنها قوله صلى الله عليه وسلم «لمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه»، وقوله صلى الله عليه وسلم «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، وقوله صلى الله عليه وسلم في وصف المؤمنين «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا إشتكى منهم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى».
= ثانيا: معرفة الآخر بصفاته، فقد وردت لفظة الكفر أيضا بمشتقاتها المختلفة، كفر، كفروا، كافرون، كافرين، يكفرون حوالي خمسمائة مرة، وكذلك الأمر بالنسبة لصفات الكافرين والمشركين مثل الكذب، والظلم والفساد، والخداع، والجحود.
ومن ذلك وصف الكافرين في سورة البقرة {خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ*إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6-7].
وقد جاءت أوصاف المنافقين في مقدمة سورة البقرة في ثلاث عشرة آية ومنها قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ*يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ*فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:8-10]. ومن أوصاف الكفّار في القرآن الكريم قوله الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ*وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ*وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة:204-206].
وبالنسبة للمنافقين فقد جاءت سورة باسمهم [المنافقون] وجاءت سورة أخرى تفضحهم بأعمالهم وهي سورة [التوبة] حتى إنها سميت سورة الفاضحة لكثرة ما ورد فيها من صفات المنافقين. ومن الأحاديث الشريفة التي توضح صفات المنافقين قوله صلى الله عليه وسلم: «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب وإذا وعد اخلف وإذا أؤتمن خان».
وهكذا فالحدود الفاصلة بين نحن والآخر واضحة جداً لدى المسلم، وقد يتساءل المرء: ما سر هذا الأمر، وما أسبابه؟ إن أسباب هذا الوضوح هو أننا أمة الدعوة، وأمة الشهادة، والأمة الوسط؟ ونحن مكلفون بالدعوة إلى هذا الدين {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108].
ويرى محمد عمارة أن الحديث عن الذات والآخر ثقافياً لابد أن يقود إلى تحديد المعالم المميزة للنموذج الثقافي الإسلامي عن النموذج الغربي، ويؤكد عمارة: بأن الإسلام هو المكون لذاتيتنا الثقافية والمحدد لمعالم نموذجنا الثقافي وتميزنا عن الآخر الغربي قائم فقط حيث يكون التميز والإقتران الأمر الذي يجعل علاقة نموذجنا الثقافي -الذات الثقافية- بالآخر هي علاقة التميز والتفاعل.
والآخر ليس هو فقط النصراني أو اليهودي أو المنافق بل الآخر أيضاً أناس من أبناء جلدتنا يتكلمون بألسنتنا ويتسمون بأسمائنا ولكنهم إختاروا نهجاً يجعلهم أقرب إلى الآخر، فهم ليسوا في الصف الإسلامي وإن زعموا أنهم حريصون على مصالح الأمة، وهؤلاء ليسوا المقصودين تماماً بهذا البحث، ولكني سأعرج عليهم لأصف بعض مواقفهم وأقدم نماذج من فكرهم.
وعندما خرج المسلمون من الجزيرة العربية منطلقين من طيبة الطيبة، كانوا أولا يعرفون دينهم معرفة حقيقية، ويعرفون ما يدعون إليه، كما كانوا يعرفون الأمم الأخرى، دخل أحد رسل جيش سعد ابن أبي وقاص رضي الله على القائد الفارسي، وأراد أن يجلس معه على سريره، فحاول الحرس منعه، فقال لهم: "كنا نظنكم أولي أحلام تتساوون فيما بينكم، فإذ بكم يستعبد بعضكم بعضا، ثم أضاف تلك المقولة البليغة: إن قوما هذا حالهم فمصيرهم إلى زوال. وكان المسلمون يعرفون الروم ونظام حياتهم، فلذلك نجحوا تماما في دعوتهم.
وإستمرت معرفتنا بالآخر قوية وواسعة ودقيقة، فبدأت الترجمة كما يصنفها حسن حنفي على عدة مراحل ودرجات منها، الأولى الإهتمام بالنصوص وترجمتها حرفياً أي الإهتمام باللفظ، ثم كانت المرحلة الثانية التي إهتمت بالمعنى، ثم المرحلة الثالثة التي إهتمت بالشرح والإضافة والنقد، وإستمرت معرفتنا بالأخر حتى عندما التقى المسلمون بالنصارى في الحروب الصليبية قدم لنا أسامة بن منقذ وصفاً دقيقاً لطباع الإفرنج، فهو يصف شجاعتهم وقوتهم وجلدهم، ولكنه يتعجب من ضعف غيرتهم أو عدمها على الأعراض، ويتحدث عن هذه النقطة بتفاصيل دقيقة مثيرة للاهتمام.
وفي الوقت الذي توقفنا أو تراجعنا عن معرفة أنفسنا، وكذلك عن معرفة الآخر، إنتبه الغرب إلى هذا الأمر، فبدأ نشاطه العلمي بدراسة الحضارة الإسلامية ومنجزاتها في شتى المجالات، وتأكد لديهم ضرورة معرفة الذات فعادوا إلى جذورهم اليونانية اللاتينية وكذلك إهتموا بتراثهم النصراني اليهودي، فلا يمكن للأديب الغربي أو المفكر الغربي أن يزعم أنه أديب أو مفكر لو لم يكن على دراية بهذا التراث، ويرى الدكتور حسن حنفي أن مصادر الفكر الغربي أربعة مصدران معلنان ومصدران غير معلنان، فالمصدران المعلنان هما المصدر اليوناني - الروماني والمصدر اليهودي- المسيحي، أما المصدران غير المعلنين فهما المصدر الشرقي القديم الذي يتضمن المصدر الإسلامي والرابع هو البيئة الأوروبية، ويرى أن أحد أسباب مؤامرة الصمت على المصادر غير المعلنة هي العنصرية الدفينة في الوعي الأوروبي التي جعلته لا يعترف إلاّ بذاته وينكر وجود كلَّ غَيْرٍ له، فهو مركز العالم إحتل صدارته وله مركز الريادة فيه.
نعم كثفت أوربا جهودها في مجالين: معرفة الذات، ومعرفة الآخر، فبالإضافة إلى الجهود الضخمة في الترجمة والنقل عن اللغة العربية واللغات الإسلامية الأخرى بدأوا في إرسال الرحالة المستشكفين إلى عالمنا الإسلامي، تزيا بعضهم بأزياء البلاد التي زارها، وأعلن بعضهم إسلامه ليعمقوا في معرفتنا، وساند هذا الجهد نشاط الإستشراق، ومن تتح له الفرصة لدراسة ترجمات المستشرقين يذهله ما بذله القوم من جهود مضنية في دراستنا.
وتميز عمل القوم بالنظام الشديد الصارم، وهو ما تميزنا به يوم أن كنا متفوقين، فعقدوا المؤتمرات السنوية للجمعية الدولية للمستشرقين، وقد بدأ أول مؤتمر عام 1873 وما زالت هذه المؤتمرات تعقد حتى اليوم حيث سيعقد المؤتمر الخامس والثلاثون العام القادم في بودابست بالمجر.
كما أنهم إذا نبغ فيهم مستشرق أصبح قبلة لهم وقد حدث هذا عندما كان سلفستر دو ساسي Silvestre de Sacy يرأس مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريس.
وليست المؤتمرات هي النشاط الوحيد، فإنهم أسسوا مئات الأقسام العلمية للدراسات العربية والإسلامية، وأنشأوا مراكز البحوث والمعاهد وعقدوا وما زالوا مئات الندوات والمؤتمرات، ونشروا ألوف أو عشرات الألوف من الكتب والدوريات، ولم يكتفوا بجهودهم وحدهم في معرفتنا، بل إستقدموا أبناء الأمة الإسلامية للدراسة عندهم وبخاصة طلاب الدراسات العليا، فأصبحت رسائل الماجستير والدكتوراه تنقل إليهم أدق التفاصيل في حياتنا الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية، وكذلك بعض الندوات والمؤتمرات التي تعقد في بعض البلاد العربية الإسلامية بتمويل من بعض المؤسسات العلمية الغربية حيث يحضرها بعض المراقبين من الغربيين.
وإهتمام الغربيين بالذات ما زال قائماً فبالرغم مما يجمع الدول الأوروبية من صلات في المعتقد والتاريخ واللغات فإن هذه الدول حريصة على هويتها القومية. وقد ذكرت الصحف أن شاباً عربياً أراد أن يضع صحناً هوائياً فوق منزله في ألمانيا فرفضت السلطات المحلية بحجة حماية الإنتاج الوطني، والحفاظ على خصوصية الثقافة الألمانية، وأشار عاصم حمدان إلى أن الفرنسيين أصروا على إستثناء القضايا الثقافية من معاهدة -الجات- حرصاً منهم على مقاومة المد الإعلامي الأمريكي المتمثل في المسلسلات التي تنتجها هوليوود وتمثل ثقافة مختلفة عن ثقافة المجتمع الأوروبي.
ويأتي إصرار فرنسا على إستثناء الإنتاج السينمائي والتلفزيوني من مباحثات -الجات- هو أن الجانب الأمريكي هو الجانب المتفوق حالياً في التبادل السينمائي بين أوروبا وأمريكا، ويصر المخرج الفرنسي روجيه بلانشو على أن مشكلة أوروبا الثقافية والفنية التي لم ينظر إليها رجال السياسة ولم يخطط لها أحد، وقال: في حرب الصور التي بدأت اليوم حكم القوي على الضعيف هو المنتصر.
وقد نشرت جريدة التايمز تقريراً صحفياً يشير إلى أن دور عرض السينما البريطانية تلقت دعماً نقدياً من الاتحاد الأوروبي لقيامها بعرض الأفلام المنتجة في أوروبا وذلك لمواجهة الأفلام الأمريكية، فقد تسلمت ثمانية دور سينما في بريطانيا عام 1993 مبلغ 13,500 جنيه استرليني -حوالي سبعين ألف ريال- لعرضها على الأقل خمسين في المئة من الأفلام الأوروبية، وأشارت الصحيفة إلى أن هذه المساعدات النقدية هي جزء من برنامج أكبر وأشمل لتطوير صناعة السينما والوسائل المرئية والمسموعة ودعمها.
وقد تناولت الصحف القرارات التي أصدرتها الحكومة الفرنسية قبل عامين لحماية اللغة الفرنسية وذلك بفرض عقوبات على كل من يستخدم أي لغة أجنبية في المعاملات الحكومية أو غير الحكومية أو في الإعلانات، كما جعلت اللغة الفرنسية هي لغة المؤتمرات والندوات العلمية التي تعقد في فرنسا، وقد إتخذت فرنسا هذه الإجراءات لمقاومة الهجمة الشديدة من اللغة الإنجليزية بصفة خاصة.
المصدر: موقع رسالة المرأة.